عنب
المصدر : أحمد تيناوي
الحياة تضعنا في بحرها ثم تتركنا نتعلم السباحة وحدنا.. وآه، كم هو قاس أن نكون وحدنا.. نضرب الماء بيدينا العاريتين.. نظن أن مهارتنا تكفي وحدها كي ننجو من الغرق!!..
منذ أربع سنوات قمت بكتابة مذكرات رجل عصامي.. بدأ حياته المهنية من الصفر، ثم غادر إلى بلاد الغربة واستطاع هناك أن ينافس أهلها في أهمِّ صناعة يعتزون بها.. الصناعي السوري روى لي أدقَّ تفاصيل قصة نجاحه، معتبراً أن التصميم والإرادة والصدق أهم تفصيل من هذا النجاح.. لكنه بين جلسة وأخرى كان يتذكر بعض الحكايات التي مرَّت في حياته، معتبراً تلك الحكايات الجزء الروحي الذي لا ينفصل أبداً عن التصميم والإرادة والصدق.. ومن إحدى هذه الحكايات أسمح لنفسي بسرد واحدة منها:
قال لي: في ستينيات القرن الماضي كنت أسافر كثيراً إلى لبنان، ويوماً وأثناء عودتي إلى دمشق رأيت في بلدة شتورا امرأة عجوز تنتظر سيارة عابرة تنقلها إلى بلدتها القريبة من بلدة بر إلياس.. أقللت المرأة واضعاً في ذهني إيصالها إلى الشارع العام فقط، لكنني تابعت بها إلى بلدتها.. المرأة أصرَّت أن تقتطع بعض عناقيد العنب من دالية في منزلها الريفي... وعندما وصلت إلى بيتي في دمشق رأيت وجوه عائلتي مكفهرة وحزينة.. أمي كانت على فراش الموت.. دخلت إلى غرفة أمي التي ما أن سمعت صوتي " أنا ابنها الوحيد" وكأن روحها ردَّت إليها.. عانقتها باكياً.. بعد لحظة بدأت تتكلم..دعت لي كثيراً، ثم علت وجهها ابتسامة خجولة وقالت بالحرف الواحد: هل يوجد في المنزل عنب أحمر.. لن أنهي قصة الرجل، لكنني أتمنى أن يكون مغزاها قد وصلكم.. نعم الإرادة والتصميم يصنعان النجاح.. لكن للحياة أيضاً حصة أخرى لا علاقة لها بماذا نريد أو نرغب، بل لها علاقة بما هو مقسوم لنا حقاً، وما هو مقسوم لنا سيصل إلينا حتماً.. والبقية عندكم !.